تحليلات اقتصادية

دور البُنُوك اليمنية في مكافحة التَّغير الـمُناخي

دور البُنُوك اليمنية في مكافحة التَّغير الـمُناخي

محمـــد علــي ثامـــر

الخميس 20 نوفمبر 2025-

– لم تعد الاستدامة مجرد شعارات ترفعها البُنُوك في حملاتها التسويقية، بل أصبحت مبدأً استراتيجيّاً يُترجم عبر سياسات تـمويلية صارمة

– دعم البنوك اليمنية المشاريع الصغيرة والمتوسطة توجه ناجح يعيد الأمل لليمنيين، ويثبت أن الاستدامة ليست رفاهية، بل ضـرورة للبقاء

في عالم اليوم الذي باتت فيه التَّحديات البيئية والاقتصادية تُهدِّد استقرار المجتمعات واقتصاداتها، وفي هذا العصـر تحديدا الذي أصبحت فيه تداعيات التَّغير المُناخي تمثل تهديداً وجوديّاً لكوكب الأرض بكله، يبرز للأفق الدَّور الكبير للبُنُوك والمؤسسات المالية والصَّناديق التَّنموية في مكافحة هذا التَّغير، باعتبار ذلك المعيار الأبرز لإعادة تعريف مفهوم “النَّجاح المصـرفي” في القرن الحادي والعشـرين؛ حيث لم يعد دور هذه المؤسسات مُقتصـراً على إدارة الأموال أو تعزيز النُّمو الاقتصادي فحسب، بل تحوَّلت إلى شـريك أساسـي في معركة إنقاذ البيئة؛ فأصبحت اليوم تُواجِه تحدِّياً مصيريّاً يتمثَّل في كيفية الموازنة بين تحقيق الأرباح، وتبني سياساتٍ تُقلِّل من بصمتها الكربونية، والدَّفع بعجلة التَّحول نحو اقتصادٍ منخفض الانبعاثات.. تفاصيل:

لم تعد الاستدامة مجرد شعاراتٍ ترفعها البُنُوك في حملاتها التَّسويقية، بل أصبحت مبدأً استراتيجيّاً يُترجم عبر سياساتٍ تـمويليةٍ صارمة؛ فمنذ إعلان مبادئ الأمم المتحدة للاستثمار المسؤول (PRI) عام 2006م، واتفاقية باريس للمناخ عام 2015م، بدأت هذه البُنُوك في إعادة هيكلة محافظها الاستثمارية، وتوجيه تريليونات الدُّولارات نحو مشاريع الطَّاقة المُتجددة، والبناء الأخضـر، والتِّقنيات الُمبتكرة لخفض الانبعاثات؛ لكن الدَّور لا يقف عند حدود التَّمويل الأخضـر فقط؛ بل امتلكت البُنُوك سلطةً فريدة في تشكيل سلوك الشَّـركات والأفراد عبر شـروط القروض المرتبطة بالمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG)، ومن ثم دعم المشاريع الصَّغيرة التي تعتمد على الاقتصاد الدَّائري، وحتى ابتكار حلولٍ مالية تُشجِّع الأفراد على تبني أنماط استهلاكٍ مُستدامة.

كيف تحوَّلت البُنُوك إلى رائدٍ أساسـي في معركة المُناخ؟

في هذا المقال نستكشف كيف تحوَّلت البُنُوك من لاعبٍ ثانوي إلى رائدٍ أساسـي في معركة المُناخ، عبر دراسة أدواتها المالية، وتأثيرها الاستراتيجي، والمعضلات الأخلاقية التي تواجهها في رحلتها نحو مستقبلٍ أخضـر؛ نظراً لكونها أحد الأذرع الحيوية لتحقيق التَّوازن بين النُّمو الاقتصادي والاستدامة البيئية، وسنعمل مقارنةً بين تلك البُنُوك العالمية والتي توجِّه استثماراتها نحو الطَّاقة النَّظيفة والسَّندات الخضـراء، وبين البُنُوك في عالمنا العربي، وتحديداً في بعض دوله كاليمن والتي تواجه تحدياتٍ فريدة تـُمتحن فيها قُدرتها على الجمع بين مكافحة الفقر ومواجهة الكوارث المُنَاخية، وهنا لا بُد لنا من استقراء واقع التَّمويل الأخضـر ومكافحة التَّغير المُناخي في البُنُوك اليمنية كنموذجٍ للتَّناول والدِّراسة؛ فكيف استطاعت هذه البُنُوك العاملة في بيئةٍ تعصف بها الحروب والاضطرابات والانهيار الاقتصادي أن تُساهم في معركة المُناخ العالمية؟!

البُنُوك.. دورٌ استراتيجيٌّ وتحدياتٍ جمَّة

في الدُّول المُتقدمة، توجَّه تريليونات الدُّولارات نحو مشاريع الطَّاقة المُتجددة والزِّراعة الذَّكية، حيث تعهَّد «بنك أوف أمريكا» باستثمار تريليون دولار في التَّمويل المُستدام بحلول عام 2030م، كما ألتزم «بنك جيه بي مورغان» بتمويل 2.5 تريليون دولار للمشاريع الخضـراء على مدى السَّنوات العشـر القادمة، أما «البنك الدولي للإنشاء والتعمير» فُيقدِّم برامج تـمويليةٍ لمساعدة البُلدان النَّامية على التَّكيف مع التَّغير المُناخي… والكثير من المبادرات في هذا الشَّأن، إضافةً إلى ذلك، تستخدم البُنُوك المُتقدمة عموماً التُّكنولوجيا لتقليل بصمتها الكربونية، مثل: استخدام الطَّاقة المُتجددة في مراكز البيانات، وتطوير تطبيقات للهاتف المحمول لتشجيع عملائها على تبني سلوكياتٍ مُستدامة، كما تقوم بتوعية العُملاء والموظفين حول أهمية مكافحة تغير المُناخ، وتشجيعهم على اتخاذ إجراءاتٍ تحدُّ من تأثيرهم البيئي، ليتجلَّى لنا الأدوار العديدة لهذه البُنُوك بدءاً من تـمويل المشاريع الخضـراء؛ كمشاريع الطَّاقة المُتجددة (الطَّاقة الشَّمسية والرِّياح، والطَّاقة الكهرومائية)، والزِّراعة الذَّكية، وإدارة المياه المُستدامة، والتُّكنولوجيا النَّظيفة، ثم إدارة المخاطر المُرتبطة بالمُناخ عبر تقييمها وإدارتها وتحديد مدى تأثيرها على استثماراتهم وقروضهم، وأيضاً تعزيزها للاستثمار المُستدام، حيث تُقدم منتجاتٍ ماليةٍ مُوجَّهة للاقتصاد الأخضـر، مثل: القروض الخضـراء، والسَّندات الخضـراء – التي تصدرها الدُّول بمليارات الدُّولارات – وحسابات التَّوفير للبيئة، وصناديق الاستثمار المُستدام، مُروراً بدعمها للابتكار من خلال تـمويل الأبحاث المُتخصِّصة في تقنيات خفض الانبعاثات، كاحتجاز الكربون، وتحسين كفاءة الطَّاقة، وانتهاءً برفع درجة الوعي عبر تنظيم حملاتٍ توعويةٍ حول مخاطر التَّغير المُناخي وسُبُل التَّكيف معه، ومن هذه البُنُوك البارزة في هذا المجال بدأ «بنك إنجلترا»، و«البنك المركزي الأوروبي» اللذين قاما بدمج مخاطر المُناخ في سياساتهما النَّقدية، ورغم كل هذه الجهود المبذولة؛ لا تزال البُنُوك تواجه فجوةً بين التَّعهدات المُنَاخية والتَّطبيق الفعلي الذي يتطلَّب منها تعزيز دورها وتضافر جُهودها مع الحكومات والمُنظمات الدُّولية لخلق إطارٍ تنظيميٍّ واضح، يقوم على تحفيز الاستثمار الأخضـر، ومواجهة المخاطر المُنَاخية بشكلٍ استباقي.

التَّغير المُناخي في سياسات البُنُوك اليمنية.. (دراسة حالة)

في خضم واقع اليمن العاصف، يبقى السُّؤال: هل يمكن للبُنُوك اليمنية العاملة في بلدٍ مُنهكٍ سياسياً واقتصادياً واجتماعياً أن تُلهم العالم بأساليب جديدة لمواجهة التَّغير المُناخي؟! والإجابة ربما تكمن في تفاصيل المشاريع الصَّغيرة التي تُعيد الأمل لليمنيين، وتُثبت أن الاستدامة ليست رفاهيةً، بل ضـرورةً للبقاء، حيث تعمل معظم البُنُوك اليمنية في ظلِّ واحدةٍ من أصعب البيئات الاقتصادية عالميّاً، تجتمع فيها آثار الحرب المُدمِّرة مع تفاقم الكوارث المُنَاخية، كالفيضانات المتكررة، وارتفاع درجات الحرارة، التي دمَّرت نحو (30%) من الأراضـي الزِّراعية خلال عامٍ واحد، ورغم ذلك، تحاول هذه البُنُوك العمل على وضع بصماتها في مواجهة هذا التَّغير المُناخي من خلال العديد من الأدوات والخطوات منها:

1)دعم المشاريع الصَّغيرة والمتوسطة عبر تـمويل مبادراتٍ تكيفيةٍ بسيطة، مثل أنظمة الرَّي الحديثة (التَّنقيط) أو تخزين المياه الجوفية، التي قد تُخفِّف من آثار الجفاف، وبالتَّالي تُخفِّف الآثار البيئية للتَّغير المُناخي، وتقديم قروضاً ميسَّـرة، مثل قروض توفير البُذُور المُقاومة للجفاف، والمعدات الزِّراعية الصَّديقة للبيئة، وغيرها.

2)دعم القطاع الزِّراعي من خلال التَّـمويل بمضخات المياه العاملة بالطَّاقة الشَّمسية، حيث تُقدِّم هذه البُنُوك تـمويلاتٍ بمليارات الرِّيالات لتمويل المزارعين في المحافظات التي تغطى عليها الجانب الزِّراعي لري أراضيهم، مما قلَّل من اعتمادهم على الدَّيزل المُكلِّف والمُلوِّث للبيئة؛ وحقَّق نجاحاً كبيراً بالنَّسبة لهم تـمثَّل في استصلاح أراضٍ جافة، وزيادة المساحات المزروعة؛ الأمر الذي أدَّى إلى تحسين الإنتاجية بنسبةٍ تصل إلى (40%) في هذه المناطق.

3)تسهم تدخلات البُنُوك في خلق آلاف من فرص العمل الجديدة، خُصِّص منها (25%) لفئة النِّساء لدعم ريادة الأعمال النَّسوية، وتنفيذ مشاريع تـمكينية تعمل على تشجيع الاقتصاد الرَّقمي الذي يُعزِّز الكفاءة، ويُقلِّل الانبعاثات الكربونية.

4)قامت هذه البُنُوك بالتَّنفيذ المرحلي لعملية التَّحول الرَّقمي وتعزيز الشُّمول المالي والاستدامة، وإن كان ذلك ليس بالمستوى المطلوب (100%)؛ إلا أنه حقَّق الشَّـيء الكثير؛ فقد أطلقت هذه البُنُوك العديد من الخدمات والمُنتجات الرَّقمية التي تُقلِّل من الاعتماد على المعاملات الورقية، وتقلِّل أيضاً من الحاجة إلى التَّنقل إلى فروعها التَّقليدية، ويعزِّز وصول خدماته إلى المناطق النَّائية.

5)تساهم المسؤولية الاجتماعية لهذه البُنُوك في مجال التَّغير المُناخي، وآخرها مبادرة دعم المُتضـررين من كارثة السُّيول في محافظات الحديدة، وتعز، وشبوة، وغيرها في عام 2024م.

خلاصة:

في الأخير.. تبقى الخلاصة هي أن البُنُوك اليمنية قد لا تكون رائدةً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني وقيم؛ ولكنها تُساهم وتبذل جهوداً ملموسة في مجال مكافحة التَّغير المُناخي، خاصةً عبر قيامها بالتَّحول الرَّقمي وتـمويل المشاريع الصَّديقة للبيئة، لتُعتبر نموذجاً مثاليّاً جديراً بالاهتمام والدِّراسة، ويظهر من تجربها القُدرة والإمكانية للتَّوظيف الإبداعي للموارد المحدودة في مواجهة أكبر الكوارث العالمية التي يتعرَّض لها بلدٌ مُتدني الاقتصاد، بل وتفتقر فيه البُنُوك للقوانين والمبادئ التَّوجيهية التي تدعم التَّمويل المُستدام ومكافحة التَّغير المُناخي… إلخ.

*كاتب وباحث اقتصادي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى