
سوق الملح بصنعاء القديمة .. قلب المدينة النابض بالحياة
- عبد الرحمن مطهر
الأربعاء12مارس2025_
لا يمل أبدا الزائر لصنعاء القديمة من زيارتها مرات ومرات عديدة ، فالكثير من سكان العاصمة صنعاء عندما يخرجون للتنزه مشيا على الأقدام، لا يجدون أفضل من زيارة المدينة القديمة المعروفة عند الجميع ب”صنعاء القديمة”،وشرب كوب من القهوة أو البن اليمني الشهير، خاصة في قهوة سمسرة وردة والتي سنستعرضها ونستعرض تاريخها وسبب تسميتها بسمسرة وردة في مقال آخر. كانت هذه المدنية تعج بالسياح خلال سنوات ما قبل الحرب في 2015، أما اليوم فلا يوجد سياح نهائيا ، بسبب أوضاع الحرب في اليمن ،ومع ذلك لا تزال مدينة صنعاء القديمة هي تلك العروسة الفاتنة الساحرة بجمالها وعبقها وتاريخا وتراثها وحضارتها ،رغم ما أصابها من خراب ودمار وإهمال خلال السنوات الماضية
وتعتبر صنعاء القديمة أقدم المُدن التاريخية المأهولة بالسكان على مستوى العالم. وعلى الرغم من الاختلاف في تحديد تأريخها، إلا أن العديد من المصادر ترجح أن تاريخ المدينة يعود إلى ما قبل ألفي عام، وبعضهم يؤكد أن تاريخ المدينة يعود إلى عهد سام بن نبي الله نوح، ولهذا يُطلق عليها اسم مدينة سام، بالإضافة إلى أسماء أخرى عديدة،كمدينة آزال مثلا ، والبعض ومنهم أستاذ الزخرفة الإسلامية بجامعة صنعاء الدكتور غيلان حمود غيلان يرى أن مدينة صنعاء القديمة التي يرجع تاريخها إلى أكثر من 5000 عام في الأصل كانت في منطقة تسمى ظهر حمير ، أو ما يعرف حاليا بحي شيراتون ،شرق العاصمة صنعاء ، أما الأكيد أن مدينة صنعاء القديمة بمعظم أسواقها ومنازلها الحالية لها أكثر من 1400 عام وهو بالتأكيد زمن طويل لمدينة استطاعت الحفاظ على شكلها ومعمارها وتراثها كل هذه السنوات، رغم ما جرى لها من ترميمات وإضافات.
وعند زيارة أي شخص لصنعاء القديمة سواء كان من سكان العاصمة أو من أي محافظة أخرى ، أو من خارج اليمن ، أو الحديث عنها لا بد له من زيارة ابرز معاملها أو الجديث عن معالمها كالجامع الكبير الذي أمر ببنائه الرسول الكريم صلى الله علية وسلم ، وزيارة أسوقها المتعددة والمعروفة بسوق الملح والذي نحن بصدد الحديث عنه خلال الأسطر القادمة.
سوق الملح
في أيام الشهر الكريم يقوم الكثير من الناس للخروج بعد صلاة العصر للتنزه حتى وقت أذان المغرب وموعد الإفطار ، وبالتأكيد أن أجمل الأماكن المستحبة للزيارة هي صنعاء القديمة وأزقتها وأسواقها المتخصصة والمتعددة المعروفة بسوق الملح ، وانتهاء بزيارة الجامع الكبير وتناول الإفطار وصلاة المغرب في هذا الجامع المبارك.
وهذا ما قمت به خلال الأيام القلية الماضية من شهر رمضان الكريم فقمت بزيارة عصرية للجامع الكبير ،هذا الجامع الذي له قدسية كبيرة في قلب كل يمني وفيه روحانيه عجيبة ، كيف لا وهو من أمر ببنائه وحدد موقعه رسولنا الكريم صلى الله علية وعلى آله وسلم، فقمت بزيارة الجامع مشيا على الأقدام من سوق الزمر في باب شعوب شمال صنعاء القديمة ، وبالمناسبة هناك أكثر من مدخل لصنعاء القديمة ولسوق الملح ، مثلا عبر بوابة باب اليمن جنوب المدينة القديمة ، أو من جهة الغرب من السائلة ، أو من جهة الشرق من جهة قصر غمدان .
وعرجت على سوق الملح في مدينة صنعاء القديمة ، والذي يُعد أحد أشهر الأسواق التاريخية، ليس في صنعاء العاصمة ، أو اليمن فحسب ، بل في العالم ، هذا السوق التاريخي الذي يتفرع منه عدة أسواق صغيرة قد تتجاوز الأربعين سوق تقرييا، وكل سوق عبارة عن شارع صغير ضيق يسمى بلهجة أهل صنعاء “زقاق” وكل سوق فيه مجموعة من المحلات أو ما يسمى بالدكاكين ،مكونة من دور واحد فقط، وهي داكين عادية وغير نموذجية أو بطراز حديث ، بل لا تزال محافظه على شكلها منذ القدم ، وعددها أكثر من 900 دكان تقريبا، وكل سوق منها يسمى باسم السلعة التي يباع فيها ، مثلا سوق الفتلة ، والفتلة هي الخيوط التي يتم بها خياطة الأقمشة ،وسوق الزبيب، وأيضا هناك سمسرة الزبيب ، وهي عبارة عن وكالة لبيع مختلف أنواع الزبيب فيها، وسنتحدث عنها أيضا في مقال منفرد بها ، وأيضا هناك سوق البقر، يتم فيه بيع المواشي والخراف وأيضا هناك سوق الحمير ، هذا السوق يأتي إلية الرعويون من المناطق المجاورة للعاصمة صنعاء لشراء ما يحتاجون من حمير لمزارعهم ، أو لنقل الأشياء في قراهم خاصة المناطق الجبلية التي لا تصعد إليها السيارات بسبب وعورة الطريق ،وهناك سوق الحبوب،وفيه مختلف أنواع الحبوب كالحنطة والشعير والدخن والذرة ووووالخ ، وسوق البز (الأقمشة.
سوق المدايع والنحاس
وهناك سوق المدايع (النارجيلة)والمصنوعة في الغالب من النحاس وبعضها مطرز بالفضه ، وبالمناسبة يشكي الكثير من حرفيي صناعة المدايع من قلة أعمالهم بسبب تحول الكثير من الشباب والنساء إلى استخدام الشيشة ، والمصنوعة من الزجاج وبالمناسبة هي مستوردة ،وقد وقفت عند أحد حرفيي المدايع أتأمل كيف يتم تلحيم المدايع المكسرة، وسألته عن حال السوق وهل هناك إقبال على المدايع وكم سعرها ؟
فقال أن سوق المدايع حاليا ضعيف ، بسبب التحول للشيشة وبسبب ارتفاع أسعار المدايع المصنوعة من النحاس ، خاصة أن ارخص مداعة تقدر تقريبا بـ 25 ألف ريال.
وهناك مدايع غالية الثمن ، يصل سعر بعضها إلى حوالي 200 ألف ريال حوالي 374 دولار ، كذلك تم زيارة سوق النحاس ، وبالمناسبة كانت الأواني النحاسية في ثمانيات وتسعينيات القرن الماضي من أهم وأبرز المقتنيات في مجالس المنازل أو ما كان يسمى بالمنظر ، فكان هناك ما يعرف بالمعشرة ، وهو صحن نحاسي كبير يوضع وسط المجلس أو الديوان أو المنظر، ويتم وضع المداعة “النرجيلة”وسط هذه المعشرة ، كنوع من الزينة حتى لو لم يكن صاحب المنزل يدخن النرجيلة ، وهناك المزهريات في الرفوف والكؤوس النحاسية الجميلة ، وعلب البخور والعود النحاسية ، وغيرها من المقتنيات النحاسية التي كان لابد من تواجدها في كل منزل من منازل صنعاء القديمة.
وقد اندثرت صناعة هذه الأواني النحاسية في اليمن وحل بديلا عنها المستورد ،والذي كان أقل جودة لرخص ثمنه ، وحاليا لم تعد منازل صنعاء تهتم بها كما كان سابقا، ربما بسبب الحالة الاقتصادية والمعيشية لمعظم الأسر في اليمن.
سوق الجنابي
وهناك سوق الجنابي الذي لا يمكن لنا أن نتحدث عن سوق الملح أو زيارته دون أن نزور سوق الجنابي ، والذي يباع فيه مختلف أنواع الجنابي وهي الخناجر اليمانية المشهورة ، وبعضها يقدر ثمنها بملايين الريالات ، والبعض الآخر بأسعار متواضعة تقدر ببضع ألاف من الريالات وبعضها ارخص من ذلك نظرا لنوع مقبض الجنبية أو الخنجر ، والذي عادة ما يكون من قرون وحيد القرن ، ومن قرون الوعول ، وغيرها ، وقد تم استيراد الكثير من مقابض الجنابي من الصين والتي أصبحت تنافس بقوة الجنابي المصنوعة محليا، والبعض قد لا يستطيع أن يفرق بين الجنبية الصيني والجنبية الأصلي أو التي تعرف بالصيفاني.
ولاحظت خلال زيارتي لسوق الجنابي الكثير من المواطنين يحرص على اقتناء جنبية أو حزام له أو لأطفاله خاصة مع قرب عيد الفر السعيد ، ولبس الجنبية عادة يمنية عند الكثير خاصة سكان الهضبة ، أكثر من سكان الساحل، فيحرص المواطن اليمني عليها ونقلها لأطفاله كتقليد تراثيي وحضاري يمني خالص يتم المحافظة عليه.
سوق الحبوب
وسوق الحبوب يتم فيه ببيع كل أنواع الحبوب ،كالشعير والحنطة والذرة والحلبة والدخن ، وغيرها الكثير من الحبوب المزروعة محليا ، والتي تسمى في اليمن “بلدي” إلى جانب بيع مختلف أنواع التوابل والبهارات والمواد الغذائية وكل المنتجات التي تجود بها الأرض اليمنية، وخلال السنوات القلية الماضية ازداد إنتاج العديد من الحبوب في بعض المحافظات اليمنية خاصة في محافظة الجوف ، عكس العقود الماضية .
سوق الفضة والمرجان
وهناك أيضا سوق الفضة ، ويعد هذا السوق من أهم وابرز الأسواق في سوق الملح ، وفيه يباع مختلف أنواع الحلي الفضية ،والعقيق اليماني الذي يعتبر من أبرز وأجمل الهدايا التي يحرص الزائر لصنعاء القديمة وأسواقها على اقتنائها ،ويتحلى بها النساء والرجال على السواء، وهناك كذلك الريالات الفضية والتي تمسى بلهجة صنعاء “ريال فرانصي”وهي العملة اليمنية التي كانت سائدة في العهد الأمامي قبل عام 1962م وبقت محافظة على قيمتها لأنها مصنوعة من معدن الفضة الخالص ،وقد وصلت قيمة الريال الفرانصي الواحد منها حاليا حوالي 22 ألف ريال، بما يعادل 41 دولار ، ووزنه حوالي عشرين جرام من الفضة ، كذلك هناك المرجان وهو حبات لول المرجان المستخرجة من قاع البحار وكان أسعار المرجان خلال العشرين السنة الماضية زهيدة جدا لا يتجاوز سعر العقد منها المكون من حوالي أربعين حبة لول الستة أو العشرة ألف ريال ، وخلال السنوات القليلة الماضية ارتفع سعره إلى حوالي خمسة ملايين ريال بما يعادل حوالي 9500 دولار.
خلال زيارتي للسوق لاحظت الكثير من عقود المرجان معلقة في بعض محلات الفضة ، فسألت عنها فقال لي أحد الباعة أن سبب ارتفاعها أن عليها طلب من بعض الدول وانه يتم استخدامها في بض الصناعات كصناعة مساحيق المكياج وغيرها ، وان أسعار بعضها وصل إلى أكثر من 25 مليون ريال ، أي ما يعادل 47 ألف دولار ، وقال أن الكثير من تجار الفضة والعقيق والمرجان ذهبوا إلى القرى البعيدة بل وإلى حدود السعودية للبحث عن المرجان والذي لا تزال العديد من النساء يحتفظن به ، ولا يعلمن أن سعره ارتفع بهذا الشكل .
سوق المعطارة
وهو سوق يباع فيه العديد من أصناف العطارة التي تستخدم في العلاج الشعبي لعلاج العديد من الأمراض، وكذل يباع في هذا السوق العديد من أنواع العطور والتي كانت سابقا عطور طبيعية ، وحاليا هناك العديد من العطور المستوردة إلى جانب العطور الطبيعية ، وكذلك أخشاب أو أعواد بخور العود، وبالمناسبة هناك العديد من الأنواع والتي يتم جلبها من الهند ومن غيرها من الدول ككينيا وغيرها ، وتستخدم العودة للبخور خاصة في المناسبات والأعياد ، وكان سابقا لا يخلو أي منزل في صنعاء من بخور العودة ـ كما ستخدم في الطقوس والموالد الدينية.
سوق المحدادة
وهناك كذلك سوق الحدادين أو ما يعرف بسوق المحدادة ، ويتم فيه صناعة وبيع مختلف أنواع السكاكين وأدوات الزراعة التقليدية كالمجارف والمفارس والمناجل والسلاسل وغيرها ، ولا يزال هذا السوق يعمل بكفاءة عالية وهناك طلب على منتجاته.
أهمية الأسواق
وتُعد الأسواق أحد أهم العناصر الأساسية في تكوين المدن منذ نشأتها في الألفية الرابعة قبل الميلاد وحتى يومنا هذا. وقد تميزت العاصمة اليمنية صنعاء، بأسواقها القديمة التي لعبت دوراً حيوياً عبر العصور كمركز لإنتاج وبيع المنتجات اليمنية الأصيلة، بما في ذلك المنتجات الزراعية، والحرف اليدوية، والمشغولات، والمقتنيات التاريخية، وذلك لموقع العاصمة صنعاء الواقع على طريق التجارة العالمية في ذلك العهد، خاصة الطرق التجارية بين مدينة مكة في السعودية ومدينة عدن اليمنية،ومن ميناء قنا في شبوة والتي كانت تتبع حضرموت في العصور السابقة ، مما جعلها من صنعاء القديمة مركزاً تجارياً مهماً عبر العصور، إلا أنها اليوم تُعتبر المدينة الحاضرة التي لا تزال تحتفظ بجزء كبير من تلك التقاليد التجارية العريقة مما جعلها متفردة عن غيرها من مدن العالم.
تسمية سوق الملح
وفي ما يتعلق بتسمية “سوق الملح”،يقول الباحث في الآثار اليمنية، الدكتور سامي شرف غالب الشهاب، للميادين أنّ “الملح كان أحد أبرز السلع التي كانت تصل إلى السوق من مأرب، الواقعة في المناطق الشرقية الشمالية من اليمن. وكان هذا الملح صخرياً، ويتم توزيعه من صنعاء إلى المدن الداخلية ومناطق الهضبة الجنوبية والجنوبية الغربية. نتيجة لذلك، اكتسب القسم الخاص ببيع الملح شهرة كبيرة، مما جعل اسم السوق يرتبط بهذه السلعة على وجه التحديد”.
من ناحية أخرى، يشير البعض إلى أن اسم “سوق الملح” قد يكون مشتقاً من كلمة “المُلح”، التي تعني الأشياء الجميلة أو المليحة، في إشارة إلى البضائع القيمة التي كانت تباع وما زالت في هذه السوق.
عاقل السوق
ويتمتع “سوق الملح” بتقاليد وأعراف تجارية خاصة تحكم عمليات البيع والشراء فيه. على سبيل المثال، إذا احتكر أحد التجار سلعة معينة، يتم أخذها منها وتوزيعها على بقية التجار لضمان توافرها للجميع بأسعار عادلة.
وكانت هناك العديد من التقاليد والأعراف التي تحكم العديد من الأسواق ، في مختلف المناطق والمحافظات والمدن اليمنية ومنها بالـتأكيد سوق الملح، من هذا التقاليد أو الأعراف التي يحتكم إليها الجميع في الأسواق ويحترمها منع الاحتكار ،فلا يجوز للبائع رفع الأسعار بشكل عشوائي، وفي حال واجه المشتري أي صعوبة في التعامل مع البائع، يمكنه اللجوء إلى “عاقل السوق”، الذي يتولى تسهيل عملية البيع والشراء، ومراجعة البائع حتى الوصول إلى سعر مناسب أو عادل. كما يتولى “عاقل السوق” معالجة مظالم التجار مع الجهات المختصة، سواء في العصر الحالي أو في الفترات التاريخية السابقة.
ولا يزال عاقل السوق موجود حاليا والبعض يسميه المصلح أي يصلح بين الباعة أنفسهم ، أو بين البائع والمشتري ويكون له نسبة رمزية من قيمة البيع ، غير أن دور العاقل تقلص بشكل كبير خلال العقود الماضية وأصبح دوره محدود للغاية.
تحول طرق التجارة العالمية
ويشير الدكتور سامي الشهاب في حديثه للميادين أنّ “صنعاء كانت مدينة تجارية في المقام الأول، وقد شكلت نقطة محورية في الربط بين مدن الهضبة والمدن الواقعة على الأطراف الشمالية والشرقية. وكانت تقام فيها سوق تعقد خلال شهر رمضان، مما جعلها محطة تجارية هامة على طريق التجارة الجبلي، الذي كان بمثابة شريان الحياة لمدن المرتفعات”.
وتابع: “قبل الإسلام، لم تكن صنعاء مجرد مدينة لليمنيين، بل كانت إحدى المحطات الرئيسة على الطرق التجارية عبر منطقة الهضبة، وهو الطريق الذي حل محل طريق اللبان في المناطق الشرقية للبلاد”.
وأردف: “في القرن الثاني قبل الميلاد، حدث تحول مهم جداً في طرق التجارة العالمية من البر إلى البحر، مما أدى إلى فقدان العديد من المدن اليمنية القديمة في الأطراف الشرقية، مثل عواصم الدولة القتبانية والمعينية ودولة حضرموت، لأهميتها التجارية. ونتيجة لذلك، انتقل الثقل التجاري إلى المناطق الجبلية (مناطق الهضبة). وكان الطريق التجاري الذي يبدأ من عدن عبر صنعاء وصولاً إلى مكة هو نفسه طريق القوافل، والذي كان يمر بمجموعة من الأسواق الموسمية التي اشتهرت في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وكانت سوق صنعاء إحدى هذه الأسواق”.
اقرأ أيضا:رمضان في اليمن.. بطون جائعة وقيادات مترفة في أفخم فنادق العالم !!