تحليلات اقتصادية

قراءة في حرب الرسوم الجمركية الأمريكية الصينية

 قراءة في حرب الرسوم الجمركية الأمريكية الصينية

أ. د. مطهر عبد العزيز العباسي

الثلاثاء15أبريل2025_  تفاجئ العالم بصدمة اقتصادية قوية إثر فرض الإدارة الأمريكية رسوم جمركية متفاوتة على معظم دول العالم يأتي في مقدمتها الصين وكندا والمكسيك وفيتنام والاتحاد الأوروبي وغيرها، وأحدثت تلك السياسة تقلبات حادة في أسواق الأوراق المالية العالمية وتحققت خسائر بتريليونات الدولارات، معظمها في السوق الأمريكية، وبحكم حجم السوق الأمريكية الكبيرة، فإن معظم الدول هبت لطلب المفاوضات حول تلك الرسوم، باستثناء الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم والمنافس القوي للولايات المتحدة، حيث ردت بفرض رسوم انتقامية على السلع المستوردة من أمريكا،

وخلال أيام تراجعت الإدارة الأمريكية عن تلك السياسة بتجميد تلك الرسوم لثلاثة أشهر على كل الدول باستثناء الصين، ثم تراجعت مرة أخرى  باستثناء الأدوات الإلكترونية كالتلفونات والكمبيوترات وأشباه الموصلات وغيرها من تلك الرسوم. هذه التراجعات، تبين مدى افتقار الإدارة الأمريكية لإستراتيجية واضحة لمثل تلك السياسة، رغم أنها أعلنت أن الهدف من تلك الرسوم هو زيادة الإيرادات العامة للدولة وإعادة توطين صناعة السلع في الاقتصاد الأمريكي وتوليد فرص العمل للشباب، فالتراجع عن تلك الرسوم يعني عدم إمكانية تحقيق تلك الأهداف، بينما أحدثت أثارا مدمرة على الاقتصاد الأمريكي  واقتصادات دول العالم،

وتفتقر سياسة رفع التعرفة الجمركية التي تتبعها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لأبسط مبادئ ونظريات الاقتصاد الحديث، فالرسوم الجمركية تعتبر نوعا من الضرائب يدفعها بالأخير المستهلك الأمريكي، ولذلك كل المؤشرات تدل على أن هذه الرسوم ستقود إلى ارتفاع معدل التضخم وتزايد الأعباء المالية على المستهلكين، والذين قد يكون لهم موقفا مغايرا في الانتخابات النصفية في العام القادم، كما تؤثر  على المنتجين أيضا، ذلك أن جزءً من السلع المستوردة تدخل ضمن سلاسل الإمداد لتزويد القطاع الصناعي الأمريكي بالمدخلات للعملية الإنتاجية، كما قد تؤدي هذه الرسوم إلى الدفع بالاقتصاد الأمريكي والعالمي نحو الركود أو الدخول فيما يسمى “الركود التضخمي”، ويبدو أن هذه الرسوم تستهدف الصين أكثر من أي بلد آخر، على اعتبار أن الولايات المتحدة تحقق أكبر عجز تجاري معها، وهو ما أدى إلى اشتعال حرب الرسوم الجمركية بين الدولتين،

وتاريخيا، كانت الدول الأوروبية تعتمد على فرض الرسوم الجمركية على الواردات من الدول الأخرى بهدف تحقيق فائض في الحساب التجاري (الفرق بين الصادرات والواردات)، وسادت هذه السياسات خلال القرون 16 ألا 18، حيث ساد ما يسمى بفترة التجاريين، وفقا لمبدأ “إفقار الجار” بهدف تحقيق الرفاهية للمجتمع على حساب الدول الأخرى، وقد كان ذلك أحد الأسباب في اندلاع الحروب بين الممالك والدول الأوروبية، وأحد الدوافع للتوسع الاستعماري في أفريقيا وآسيا والأمريكيتين، ورغم تراجع استخدام تلك المفاهيم في القرن التاسع عشر بسبب النظريات الاقتصادية التي قدمها أدم سميث في كتابه “ثروة الأمم”، إلا أن الدول الغربية ظلت تتبنى سياسات فرض الرسوم الجمركية حتى حلت أزمة الكساد الكبير في بداية الثلاثينات من القرن العشرين، واتجهت الدول نحو صياغة قواعد للتجارة الدولية بعد انقشاع غبار الحرب العالمية الثانية،

وكما يشير العديد من المحللين، فإن سياسة فرض رسوم جمركية عالية تمثل تجاوزا لكل القواعد والمبادئ المنظمة للتجارة العالمية، فقد ظلت الدول تتفاوض على اتفاقيات التجارة لأكثر من خمسة عقود حتى تم إنشاء منظمة التجارة العالمية في منتصف التسعينيات من القرن الماضي،

ولذلك، فإن كل الأطراف تكون خاسرة في هكذا حرب، فهناك قواعد اقتصادية تقوم عليها حركة التجارة العالمية مثل الميزة النسبية والتخصص وتقسيم العمل، ولا يمكن لأي دولة أن تستغني عن استيراد السلع من دول أخرى، بل عليها أن تستفيد من الميزة النسبية التي تتمتع بها سواء كان ذلك في الإنتاج الزراعي أو الصناعي أو النفط أو المعادن أو الخدمات وتسد احتياجاتها عن طريق التبادل التجاري مع الدول الأخرى، وفي هذه الحالة تكون التجارة الدولية مصدرا للنمو الاقتصادي واستقرار الأسعار وتوفير السلع والخدمات،

وبالنظر إلى إقتصادات كل من الولايات المتحدة والصين، يمكن القول أن الاقتصاد الأمريكي أصبح معتمدا على قطاع الخدمات، والذي يشكل 80% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما قطاع الصناعة يمثل 19% من الناتج، ولذلك فإن الاقتصاد الأمريكي يحقق عجزا في تجارة السلع ولكنه يحقق فائضا في تجارة الخدمات، وهذا يشمل خدمات التكنولوجيا والاتصالات والسياحة والتعليم وغيرها، وهذا يمثل ميزة نسبية عالية للاقتصاد الأمريكي، وبالمقابل فإن تركيبة الاقتصاد الصيني تختلف نوعا ما، حيث تساهم الصناعة بحوالي 36% من الناتج المحلي والزراعة بحوالي 7% والخدمات بقرابة 57%، وتتمتع الصين بميزة نسبية في قطاع الصناعة حيث أصبحت خلال العقود الماضية “مصنع العالم” بسبب توفر الموارد البشرية المدربة والرخيصة والبنية التحتية لسلاسل الإمداد داخليا وخارجيا، وبذلك تعتبر الصين بيئة مناسبة ومربحة للاستثمارات الصناعية بمختلف أنواعها وللشركات الدولية العملاقة وأولها الشركات الأمريكية، ومن الصعب منافسة الصين في هذا الجانب في الأجل القصير والمتوسط، ويتطلب ذلك خطط إستراتيجية طويلة الأجل لإعادة توطين الصناعة في الاقتصاد الأمريكي،

وتبين الدلائل إلى أن الصين اختارت المواجهة هذه المرة مع أمريكا لامتلاكها أوراق قوية للتفاوض، فالاقتصاد الصيني أصبح أكثر اندماجا في الاقتصاد العالمي والسلع الصينية تستهلك في معظم دول العالم، رغم أن السوق الأمريكية مهمة للصادرات الصينية، كما أن الصين تتمتع ببعض مزايا القوة الناعمة في تعاملها مع دول العالم من خلال تجمع دول بريكس، والذي يشكل 38% من الناتج العالمي، وهذا يفوق حجم الناتج لمجموعة السبع التي تقودها أمريكا، كما أن هذا التجمع أنشاء مؤسسات مالية دولية مثل بنك التنمية الجديد وبنك الاستثمار في البنية التحتية وصندوق الاحتياط النقدي، برأسمال 100 مليار دولار لكل واحد منها، إضافة إلى أن الصين تتبنى مبادرة “الحزام والطريق” لربط دول العالم بطرق التجارة البحرية والبرية مع الصين، ونفذت العديد من مشاريع البنية التحتية “موانئ، مطارات، قطارات، كهرباء، اتصالات” في العديد من الدول وخاصة في أفريقيا وآسيا، كل ذلك جعل انسياب العلاقات التجارية والاقتصادية بين الصين والدول الأخرى أكثر سلاسة ويسر،

وبالمقابل، يلاحظ أن الولايات المتحدة في تبنيها هذه السياسة أصبحت أكثر انعزالية وفتحت جبهة واسعة مع معظم دول العالم، رغم أنها ما تزال تتمتع بقوة نفوذ كبيرة من خلال مؤسسات التمويل الدولية مثل البنك والصندوق الدوليين وبنوك التنمية في قارات العالم، فضلا عن تحكمها في بنوك الاستثمار الدولي وفي أكبر الأسواق المالية وتأثيره على الأسواق المالية في العالم،

وإجمالا، فإن استعار حرب الرسوم الجمركية بين أكبر اقتصادين في العالم ستكون نتيجتها الخسارة للطرفين والتأثير السلبي على اقتصادات معظم الدول، ويخشى أن يقود ذلك إلى صراع عسكري بين القوتين والذي لا يعلم أحد منتهاه، ولذلك فإن الأمر يتطلب الحكمة في تبني سياسات اقتصادية وتجارية رشيدة تعزز القواعد والمبادئ المتفق عليها لإدارة نظام التجارة الدولية، وفي اللجوء إلى التفاوض والحوار لحل الخلافات التجارية ومعالجة القيود النقدية أو النوعية التي تعيق حركة تبادل السلع والخدمات بين اقتصاداتها وبقية دول العالم، وكل ذلك يعزز فرص الاستقرار الاقتصادي والسياسي في عالم اليوم،

اقرا أيضا:الصين تعارض الرسوم الجمركية الأمريكية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى